كثيراً ما نسمعهم يقولون لا تغالوا في حب النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجفاها من عبارة يرددها السفهاء ، وهل في زيادة الإيمان غلو ؟ إن حبه إيمان صلى الله عليه وسلم وهو القائل: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
وعندما سأل أبي رزين العقيلي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحرق في النار أحب إليك من أن تشرك بالله، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء للظمآن في اليوم القائظ".
وقال صلى الله عليه وسلك: " أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمة، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي".
فمحبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم، وهي من الإيمان قال تعالى "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم".
فلا يأتينكم حاقد حاسد مغفل ويغركم ويقول لكم إن لا تبالغوا في حب النبي صلى الله عليه وسلم، تحت إسم الغلو .
بل إن من السفاهة أن يستشهد بحديثه صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" . إن الحديث كما جاء في صحيح الإمام البخارى: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" فمعلوم أن النصارى قالت في عيسى أنه إله، والنبي يحذر من أن نقول مثل قولهم، وبين لنا أن مرتبته هي مرتبة العبودية الخالصة لله تعالى، فهو صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله وفي هذا قال إمامنا البوصيري رضي الله عنه في قصيدته الشهيرة البردة المباركة:
دع ما أدعته النصارى في نبيهم ... وأحكم بماشئت فيه مدحاً وأحتكم
وهل قال أحداً من المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم إله ؟!
لم يقولها أحد عبر تاريخ الأمة وذلك كرامة وإستجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم حين قال: " اللهم لاتجعل قبري وثن يعبد".
ولا يخفى عليكم الحديث الذي جاء في صحيح الإمام البخاري عن عمر بن الخطاب أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتى به يوما فأمر به فجلد ، فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله. فمحبته صلى الله عليه وسلم وإن كان صاحبها عاصى تحفظ عليه إيمانه. ويالها من نعمة .
والرجل الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الساعة فقال: متى الساعة؟، قال صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها ؟ قال لا شئ إلا إني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت مع من أحببت .
فيقول سيدنا أنس: فما فرحنا بشئ، فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت . وقال سيدنا أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجوا أن أكون معهم بحي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم .
فهل هناك فضل بعد هذا الفضل؟!
وقد هام الصحابة في محبته صلى الله عليه وسلم
فسيدنا الصديق الأكبر رضي الله عنه تروى عنه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فتقول: قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله أذن لي بالخروج والهجرة) فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: (الصحبة) قالت عائشة: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكر يومئذ يبكي.
وموقفه رضي الله عنه في الهجرة كما جاء في صحيح البخاري :" اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لعازب: مُر البراء فليحمل إليَّ رحلي، فقال عازب: لا، حتى تحدثنا: كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة، والمشركون يطلبونكم؟ قال: ارتحلنا من مكة، فأحيينا، أو: سرينا ليلتنا ويومَنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة (اشتد الحر)، فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، فإذا صخرة، أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قُلت له: اضطجع يا نبيَّ الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب (الذين يبحثون عنا من المشركين) أحداً، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته فقُلْت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، سماه فعرفته، فقُلْت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قُلْت: فهل أنت حالب لبنا لنا؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا، ضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لي كُثْبة (قليل) من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقُلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قُلْت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى. فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحَدٌ منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقُلْت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إن الله معنا)".
فانظر إلى أعتنائه رضي الله عنه بنظافة شراب ووضوء النبي أمر الراعي أن ينفض الضرع من الغبار، وثم ينفض كفه، وجعل الخرقه على الأدواة، وتركه حتي يبرد، ثم ناوله لسيدنا النبي وشرب سيدنا النبي فرضي سيدنا أبى بكر من مشاهدة حبيبه يرتوي.
وموقف سيدنا ثوبان عندما غاب النبي صلى الله عليه وسلم طوال اليوم عن سيدنا ثوبان خادمه وحينما جاء قال له ثوبان: أوحشتني يا رسول الله وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ' اهذا يبكيك ؟ ' قال ثوبان: لا يا رسول الله ولكن تذكرت مكانك في الجنة ومكاني فذكرت الوحشة فنزل قول الله تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شئ.
ومنها ما رواه أبو داود والبيهقي : أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر. قال: فلما كانت ذات ليلة، جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم. فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فجمع الناس، فقال: أنشد الله رجلا فعل ما فعل، لي عليه حق، إلا قام. فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا : أن دمها هدر.
وسيدنا حبيب بن ثابت الذي أحضره مسيلمة الكذاب وأخذ يسأله: تشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول نعم. يقول: فتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فيأمر السياف أن يقطع عضوا منه.. فما زال يسأله ويرد عليه ويقطع منه حتى سقط قرابة نصف جسده.. وهو راسخ رسوخ الجبال.. حتى مات.. فلما بلغ أمه نسيبة بنت كعب ما حدث لابنها.. قالت: لمثل هذا كنت أعده!!
وتبرك السيدة أم سليم بعرقه ما هو إلا لكمال محبتها له صلى الله عليه وسلم فكما جاء في صحيح مسلم: عن أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه قال فجاء ذات يوم فنام على فراشها فأتيت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه و سلم نام في بيتك على فراشك. قال: فجاءت وقد عرق وإستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قواريرها ففزع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعين ؟ يا أم سليم فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا قال: أصبت .
وقصة المرأة التي أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحد، فلما نُعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.. تريد صغيرة.
وأمثلة محبته صلى الله عليه وسلم من الصحابة تفرد في مجلدات، فهم أقتتلوا على ماء وضوئه وتبركوا بشعره ونخامته والمواضع التي مشي فيها وصلى فيها وجلوسهم عنده كأن على رؤسهم الطير وعدم إحداق النظر فيه جلالة له صلى الله عليه وسلم .
فهل هم كانوا يغالون في حب النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم هم مشركون وقبورييون وأطروه كما أطرت النصاري نبيهم .
هل غالى سيدنا حسان ابن ثابت عندما مدح النبي كما جاء في كتاب الإستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر أن جناب الكلبي. أسلم يوم الفتح. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول لرجل ربعة: " إن جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، والملائكة قد أظلت عسكري، فخذ في بعض هناتك " فأطرق الرجل شيئاً، ثم قال: " الكامل "
يا ركن معتمد وعصمة لائذ ... وملاذ منتجع وجار مجاور
يا من تخيـره الإله لخلقــــه ... فحباه بالخلق الزكي الطاهر
أنت النبي وخير عصبة آدم ... يا من يجود كفيض بحر زاخر
ميكال معك وجبرئيل كلاهما ... مدد لنصرك من عزيز قاهر
قال: فقلت: من هذا الشاعر؟ فقيل: حسان، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له ويقول خيراً.
أم هل كان سيدنا حسان بن ثابت قبورياً مغالياً حينما قال في قصيدته المشهورة في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية:
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
تهيل عليــــه التــرب أيـد وأعـين ... عليه - وقد غارت بذلك أسعد
أم كان يغالي حينما قال رضي الله عنه:
وأحسن منك لم تر قط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كــل عيــــب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحب وسلم، وزدنا محبة فيه، وبلغه يارب منا سلامنا، وأقبلنا يارب ببركة حبنا فيه صلى الله عليه وآله وسلم .