الأول : التوبة من الذنب ولو صغيرة وأركانها ثلاثة :
الندم على ماوقع من الذنب لرعاية حق الله تعالى.
والعزم على عدم العود كعدم عود اللبن في الضرع.
والإقلاع عن الذنب إن كان متلبساً به فيرد المظالم لأهلها أو يستسمح المظلوم إن أمكن وإلا استغفر له وتصدق عليه بما يمكنه فإن الله تعالى إذا علم صدق توبة العبد أرضى عنه خصماه .
الثاني : من الأصول شكر المنعم جل وعز، وهو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من سمع وبصر ولسان وغير ذلك إلى ما خلق لأجله فهو يرجع إلى إعتقاد بالجنان ونطلق باللسان وخدمة بالأركان بأن يعتقد أنه لا منعم في الحقيقة إلا الله، وينطق لسانه بأنه لا إله إلا هو أو بغير ذلك من الأذكار، ويعمل بجوارحه كل ما طلب منه ولو ندباً، ومن النعم التوفيق للتوبة والشكر عليها فيشكر على الشكر، فالشكر لا نهاية له، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك والشكر بهذا الإعتبار عزيز جداً لأنه طريق الصديقين ولذا قال تعالى وقليل من عبادي الشكور .
الثالث: الصبر على البلاء كمرض وضيق عيش وفقد مال أو أهل أو عيال وأذية أحد ومن ذلك الصبر على الأحكام التكليفية كالصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد والصبر وحبس النفس على ما أصابها مما لا يلائم رضاها بتقدير الفاعل المختار من غير إنزاعج فيجب الصبر والتسليم لما قدره العليم الحكيم فإن لم يصبر وأتقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة من غير تخفيف عنه ولاناصر ينصره .
الرابع: الرضا وهو الخروج عن رضا نفسه بالدخول في رضا ربه بالتسليم للأحكام الأزلية والتفويض للتدبريات الأبدية بلا اعراض ولا أعتراض .
الخامس : إتباع شيخ عارف قد سلك طريق أهل الله وعلم مافيها على يد شيخ كذلك إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يصحب شيخا يدله على الطريق إلى الله، واشتغل بما عنده من عبادة أوعلم فقد تعرض لإغواء الشيطان، ولذا قيل من لاشيخ له فالشيطان شيخه، وبالجملة من لم يسلك على يد شيخ عارف فلا يمكنه الترقى إلى منازل القرب ولو أتى بعبادة الثقلين .
السادس : الجوع اختيارا بأن لايأكل أكثر من أكلة خفيفة في يومه وليلته من الحلال وهو ما جهل أصله ولايمكنه ذلك في ابتداء أمره إلا بكثرة الصوم فإنه لجام السائرين قاله في شرح الخريدة وقال في التحفة الجوع اختيارا بأن لايزيد على ثلث البطن عند شدة لجوع ولكن المبتدي لاقدرة له على ذلك غالباً فيلزم الصوم في ابتداء أمره حتى ترتاض النفس على ذلك وفي الحديث يكفى ابن آدم من الطعام لقيمات يقمن صلبه أو كما قال فبالجوع تنكسر النفس والله عند المنكسر قلوبهم .
وذكر في السير أن الأصول ستة تقليل الطعام والمنام والكلام والإعتزال عن الأنام والذكر المدام والفكر التام فهذه الستة البعض منها يعينك على البعض الآخر، وهذه الستة إذا فعلها السالك بصدق تنقله إلى ترك جميع العادات، والمطلوب من هذه الأشياء الأعتدال والحالة الوسطى بين الإفراط والتفريط، ولذلك قالوا تقليل الطعام ولم يقولوا ترك الطعام فالنافع في هذا الطريق أن لايأكل حتى يجوع وإذا أكل لم يشبع فعلى هذا ينبغي أن يترك عادات الغداء والعشاء، فإن كان في محل العشاء شبعاناً فلا يتعش وكذلك الغذاء، وقد كان صل الله عليه وسلم إذا تغدي لم يتعش وإذا تعشى لم يتغد، والملطوب أيضاً ترك ألوان الطعام وأن لايجمع بين آدامين، وقد تعسر الحالة المذكورة أعنى الحالة الوسطى على المبتدي فلا تطاوعه نفسه أن يفعل ما ذكرناه فيجب عليه حينئذ ظلمها والتعدي عليها بكل حق حتي ترضى بالذي ذكرناه، وذلك بأن يقلل الأكل بالكلية ويحملها ما لاتطيقه من الأعمال، وإن كان هذا خارجا عن الإنصاف إلا أنه يفعل معها ذلك لأجل إصلاحها ورجوعها للحق ولأكل الشرعي إلا إذا وجد في مزاجه تغيرا فيجب عليه الأكل، ويجب عليه أن يريح نفسه لأن تغير المزاج يفسد الأحوال والمقامات خصوصا إذا غلبت عليه السوداء بسبب الجوع فحينئذ يجب على السالك الأكل والراحة والمعاملة باللطف والتداوي والحق أنه يجب على السالك اذا أحس بقليل المرض أن يترك المجاهدة بالكلية ويشتغل في إصلاح مزاجه فإذا زال المرض يعود إلى المجاهدة لأن المرض من أكبر القواطع أهـ المراد منه ( والحاصل ) إن هذه الطريق مبناها على الموت بالإرادة لخبر موتوا قبل أن تموتوا قال سيدي عمر بن الفارض
ونفسي كانت قبل لوامة متى ... أطعها عصت أو أعص كانت مطيعتي
فحملتها مال الموت أيسر بعضه ... وأتعبتها كيما تكون مريحتي
فعادت ومهما حملته تحملت ... منى وإن خففت عنها تأذت
( واعلم ) أن العمل ثمرة المأكول فالأكل حرام لاينشأ عنه الا أعمال خبيثة محرمة، والحلال الصرف لاينشأ عنه إلا الأعمال الصالحة والمتشابه ينشأ عنه أعمال مختلفة لاتخلو عن الرياء والعجب والخواطر الرديئة .
السابع: العزلة عن الناس قاطبة إلا عن شيخه المريد له أو أخ صالح يعينه على الطاعة والهمة إلا لضرورة بيع أو شراء أو علم أو نحو ذلك إذا مخالطة الناس تكسى القلب ظلمة لو فرض أنها تخلو عن محرم والمجالس لاتخلو عن المحرمات في الغالب كالغيبة والنميمة ولبعضهم
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ علم أو أصلاح حال
الثامن : الصمت ظاهرا أو باطناً إلا عن ذكر الله تعالى، لأن الكلام يوجب التفرق والمطلوب الجمعية، وهذا على تقدير مخالطة الناس لضرورة، فعلم أن من شأنهم ترك فضول الكلام والطعام والمنام، ويجب على المريد تخليص القلب من كل يشغل عن الرب من الأغيار، كالمال، والزوجة، والولد، والجاه، والعلم، والعمل، فلا يركن لشئ من ذلك، ومما يعينه على ذلك كثرة المجاهدة، وهي مخالفة النفس في هواها مع الخوف من الله بعد التوبة، إلا أن شرط السائر أن لايكون خوفه من عذاب الله وإلا كان عبد سوء لايعمل إلا إذا خاف العقاب بل يخافه إجلالا ومهابة، قال تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى". أي جنة الشهود في الدنيا وجنة الخلود في العقبى فانظر قوله تعالى : خاف مقام ربه ولم يقل عذاب ربه .
التاسع: السهر للتهجد والذكر فلا ينام الثلث الأخير من الليل لأن الذكر وفي ذلك الوقت تأثيرا أكثر منه في غيره فأقل السهر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الشمس .
العاشر: الذكر والفكر، فيتفكر في بديع صنع الله تعالى لإدراك دقائق الحكم ليزداد علماً وحباً، ويذكر الله تعالى قياما وقعوداً واضطجاعا على الدوام ولايتجاوز الذكر الذي لقنه له شيخه إلا بإذنه، والذكر أعظم أركان الطريق لأن المقصود منها تخليص القلب مما سوى الله تعالى، وهو أعظمها وفي ذلك لأن كثرته توجب إستيلاء المذكور على القلب، حتى لا يكون فيه سواه، بل جميع الأركان تنشأ عنه، لأنه يورث القلب نورا ساطعا به يزهد الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة، ولكونه أعظم الأركان وقع الحث عليه في آي كثير من القرآن .
( وهو نوعان الأول ) الذكر بالسان وهو شأن أصحاب البدايات، فيجب عليهم موالاة الذكر باللسان مع تكلف الحضور بالقلب حتي يصير الحضور طبيعة للذاكر، ولايترك الذكر لوجود الغفلة فيه، فلرب ذكر مع غفلة يرفعه إلى الذكر مع الحضور، ورب ذكر مع حضور يرفعه إلى الذكر مع الغيبة عما سوى المذكور وإذا غاب عما سوى المذكور استغرق في عين بحر الوحدة، فيصير القلب حينئذ بيت الرب تعالى، فينشأ عنه الذكر من غير قصد ولاتدبر لإمتزاجه بروحه وجسمه، وأنواع الذكر اللساني كثيرة منها التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن وغير ذلك وأسرعها إجابة للمبتدي لا إله إلا الله مفردة عن محمد رسول الله فيما عدا الختم فإذا أراد الختم ختم بها، فإذا كمل السالك فالأفضل له أن يضم معها رسول الله، والأفضل حينئذ الإشتغال بتلاوة القرآن ليتخلق به وتفاض عليه العلوم اللدنية من أسراره فإن لم يكن يحفظه اشتغل بسماعه من غيره وإن كان القارئ صاحب غفلة ويكون الأمر على حد قول ابن الفارض
يا أخت سعد من حبيب جئتني ... برسالة أديتها بتلطف
فسمعت مالم تسمعي ونظرت ما ... لم تنظري وعرفت مالم تعرفي
النوع الثاني : الذكر بالقلب وهو شأن أرباب النهايات ومنه الفكر في بديع المصنوعات، واعلم أن بعضهم يعد الأصول أكثر منذ ذلك وبعضهم يعدها أقل، وعمدتها الذكر والصدق في التوجه بمخلفة النفس في شهواتها ومقاساة الصبر على يد شيخ كامل .